(قصة قصيرة ليست من نسج الخيال) حمام الزيتونة
عبَّاس ليس كَكُلِّ العٌبوسْ, يَتناغم مع اسمه, رٌبَّما يبدٌو كذلك لمن لا يعرفهٌ, أقصدٌ الذين لم يُخالطُوه أو عاشروه, الذين قٌدِّرَ لهم فَقَط التُّواجٌدٌ في مسالِكِهِ إِلى بَيْتِهِ بِالْمَدينَةِ القَديمَةِ, يَصْدٌقٌ ذلكَ عَنِّي في وَقْتٍ من حياتِي قَضَيْتٌهٌ بالتِّجَارةِ, بالزِّقاق المشهور عند جٌلِّ البيْضاوِيِّين, ممرّ 'الكٌمَنْدَر ابْرٌوفٌو", أحَدْ المَداخِلْ الرَّئِيسِيَّة للمدينة العَتِيقة, عبَّاسٌ يٌتير اهتِمامَكَ بِأَناقَـتِهِ, تناسُقٌ ألوانٌ بدْلَتِهِ مع قٌبَّعَتِهِ, لا تكاد تٌفارِقٌهٌ قٌبّعاتٌهٌ لأكْتشِفَ السبب في ما بعْدَ عِنْدَ مٌخالَطَتِهِ, رأسٌهٌ مَمْشوقٌ عٍنْدَ جَبْهتِهِ فيعْدو وَجْهُهُ بيْضاوِياً حينَ يُزيلُ قُبَّعَتَه, فيَتَلاشى ُ العٌبوسٌ المٌتَوَجَّسٌ, لعلّه يخٌصُّ أحْبابَهُ بِهذا المُحَيَّا لِيَخالِطَ الغُرَباءَ بِعُبوسِهِ, أضُنُّهُ غيْرَ فخورٍ بِجَبْهَتِهِ المُقَمْقَمَة, رُبّما تُسَبِّبُ لَهُ بعْضَ الإِحْراج, "شَدْ فيهْ" (مازَحَهُ) أحَدُهُم بِأنْ مدّ لهُ غِطاءَ (طاجين )..."هاكَ طرْبُوشْكْ", فِعْلاً لوْ وَضَعَه لتجوَّفَ رأسُهِ فيهِ.
عبَّاس لا عُمْرَ لَهُ, اسْتَرْجِع صورة ماضِية لَهُ أَبْعَدَ ما استَطَعْتَ, عبَّاس لا يتغيَّر, لا ينالُ الزَّمانُ مِنهُ, جامِدٌ كَأَنَّهُ رقّاص الزَّمان نفسهُ, هُوَ معْلَمٌ لِزَمان الآخَرين, عليْهِ يقيسون أَعْمارَهُم, اغْتنى البعْضُ و افْتَقَرَ آخَرون, هاجرَ أحدُهُم و انْغَمَسَ آخَرُ في متاهاتِ الحَياة, انْصَلَعَ ذاكَ أو بَرزتْ كِرْشُهُ, اشْتَعَلَ رأْسُ هذا بياضاً وتَحَرَّقَتْ جبْهةُ رفيقِهِ بِزَبيبَة صَلاه....في الأمسِ القَريب كانوا ذووا "غُوفالات غيوانية" أو "هيبِّيِّين" نُحَفاءْ بِسَراويل ادجين ضيِّقَة....كلُّ هؤلاء مرُّوا و ما زالوا يمُرون من "كُمَنْدَرْ ابْروفو" كما يمُرُّ عَبّاسْ, كُلُّهُم َأَخَدَ الزَّمانُ مِنْهُم إلاّ عبّاس مُوَظّف شرِكة نقْل مخزنيه منْدُ...لا أَحدَ يَعْرِف, عبّاس أعْزَبْ, "مَرْضي" يعولُ أُمَّه و لهُ أخَوات بناتْ, وسيمٌ ما لَمْ يُزِلْ قُبَّعَتَه, هكذا أراهُ أنا, كيْفَ يرى عبّاسٌ نفْسَهُ يا تُرى ؟ غالِباً في غايَةِ الْوَسامَة, مُتَعَدِّدُ المُغامرات النِّسوِية, كُلَّ يوْمٍ هُوَ في شأْن, لهُ "ٌقَبولٌ" لديهن, يغيظ ذلك حُسّادَهُ, عبّاس لا يُمْسي لِدارِهِ حتّى يمُرّ على حانةٍ أوْ اثنتَيْنِ, يمُرُّ و في عيْنِهِ حُمْرَة و على مُحيّاهُ ابتِسامة مرِحة, قبْلَ بيْتِ أُمِّهِ سيمُرُّ على بعْضِ المقاهي الشّعبية, نوادي البيْضاوِيِّين و مَن خالَطَهُم و تشَكّلَ بِهِم, تشَرّبَ مِزاجَهُم و مُزاحَهُم, مُرحّبٌ بِعبّاس دائما, لا أحد يُضاهيهِ في قَصِّ النُّكَتْ, نُكَتُهُ تطولُ و تطولُ لا تكادُ تنْتَهي و الكُلُّ يتَضَوَّرُ ضحِكاً و لوْ سَبَقَ لهُم معْرِفة مُنْتَهى النُّكْتة, المضحِك عبّاس و إخراجُه المتجدِّد في الحكْيْ, النُّكْتة تلِدُ نُكْتة هكذا دواليك....
لِعبّاس خاصِّيّةٌ أُخرى نادِرةٌ, بِتعْبيرٍ أفضل هُو أَبو النّوادِر, تكادُ تكونُ حياتُهُ سلْسِلة طرائف مُتَتالِيةٌ, غيْرُ مُرْغَمٌ هُوَ لِيخْترِعَ نكْتَة ليُمرِّغَ مستمعيه من الضّحِك, مجرّد ما يسرِدَ ما عاشَهُ من مواقف سُرْيالية جديرة بأنجح المسرحيّات الكوميدية....كيف ذلك ؟
حمّام الزّيْتونة من أقْدم حَمّامات المدينة القديمة, مدْخَلُهُ بابٌ مٌقَوّسٌ كأَيِّ "روْضٌ" من الرِّيّاضِات العتيقة, إرثٌ معْماري حضاري للمغرب الأصيلْ, حمّامُنا فريدٌ و مميّز, ضيِّقُ المِساحَة شديدُ الحُرورةِ, يرْتادُهُ عُشّاقُهُ شِتاءً, من سبق له ارتيادهُ فهو بِصَحٍّ و صحيح ابن المدينة القُحْ, من هو أفخَرُ بهذا اللقب أكثرَ من عبّاس المُنْهَمِكُ في الحديث مع "الطّيّاب" المُسيِّر للحمّام, عبّاس تَجَرَّدَ من ملابِسِهِ لكنّه ليس في عجلةٍ من أمرِهِ, هنا حمّامُهُ و الطّيّابُ معْرِفة قديمة....
أيْن النّادِرةُ إذاً ؟
قصيرُ القامةِ و ثخين ينْسَلِخُ من ثِيابِهِ غيْرُ مهتَمٌ بما يدور حولهُ, كلّ تفْكيرِهِ في "تحْميمتِهِ الكامِلةَ المكْمولةُ ", بكلِّ لوازِمِها و –بالخُصوصِ- بِ " غَسّالِها " ....(لمن لا يعرفه, الغسّالُ = الأجيرُ المساعِد و المرافق في طقوس الغسل المتكامل).
أعْرف أنّكُم بدأْتُم تشْتمّون رائحة الكارثة, الثّخينُ القصيرُ سلّم رُزْمةَ أغراضِهِ للطّيّاب مقاطْعاً نِّقاشَ عبّاس معهُ دونما استئذان و تربّتَ على كتِفِ عبّاس و قال من غيْرِ نظر :
" اتْبَعْني عافاكْ لِلدّاخِلْ, واحدْ اشْوييّا بِمّا اسْخَنْتْ " .
آنّها الكارْثة, بل الطّامّة الكُبْرى, تزلْزَلَ عرْشُ الكِبْرياءُ و تهدّمتِ المَوازينُ .... لقد أُهين عبّاس يا ناس, أنْ حَسِبَهُ هذا النّكِرَةُ غسّالاً ؟
أراد الطّيّاب أنْ يتدارَكَ الالتباس لكنّ عبّاساً نَهَرَهُ و لجمهُ في خِفَّةٍ و هُدوءٍ فأتْبَعَ الزّبون المزهوّْ :
" شوفْ آ الشّريفْ, آسْخانْ مَزْيان, راحْنا كنْديرو اخديمة مكْمولة '
تعجّب القصيرُ لحِرفيّةِ كسّالِهِ و ولَجَ بيْتَ النّارْ....
مرّت ثلث ساعة, ضَجِرَ الزّبونُ و لم يصِلْه ُ خادِمُهُ, أخْرَجَ رأْسهُ من بيتِ النّار :
" أفينَكْ أصاحبي ؟"
"مُحالْ واشْ اسْخَنْتي...أجي عِنْدي اهْنا ..."
الثخين القصير بدأت تُراوِدُهُ الشّكوك لكنّهُ انصاغ و تَقدّم ببُطْءٍ....تَلَمّسَ عبّاسٌ بِقُفى يَدِهِ صدْرَ الرّجُل ثمّ استدارهُ طاءِعاً و تلمّسَ ظهْرَهُ ...
" لا لا ...واش غادي انديرو اخْدْمَة امْلاوْطَة " ؟؟ " سيرْ أسيدي ارْجَعْ حتّى إيوَلِّي ابحالْ صَدْرَكْ ابْحالْ ظَهْرَكْ"
كاد صاحِبُنا يمتثل لِتَفاني عبّاس في تقمُّصِ دوْرِهِ, لكنّهُ تردّدْ, بدأ يترنّم الاعتذار, ارتبك و تلعثم, انتبه الحاضرون و حسّوا أنّ أمراً شيِّقاً يدورُ أمامهم, جُلُّهُم يعْرِفُ عبّاساً فأشْفقوا على المِسْكين المُتورِّط في شِراكِهِ.
استدار عبّاس نحو الطّيّاب و طلب أنْ يمُدّهُ بِحقيبَتِه و أن يفتحها و يستخْرِجَ منها " بِنْوارَهُ" الشّديد البياض الذي مُدّ على الطاولة أمام الأعْيُنِ الجاحِظة للزّبون البائس...
" شوف أولْدْ القَ....البِنْوارْ ادْيالي كَيْ اسوى الضوبَلْ ادْيالْ الصّاليرْ ادْيالَكْ...أُو اتْسْحابْني أنا الكسّالْ" ....
مهما صنعت, لن أتمكّن من أُحاكي عبّاس في طريقة سرْدِهِ لهذه الطّريفة, أطالها و تفنّن في تفاصيلِها حين حكاها لي مع زمرة من الأحبّة بمقهى " الأكسلسيور", توجّعْتُ من التّضَوُّر ضحِكاً و عبّاس لا يكاد يبتسِم حتّى, لكن في عينيه رضى بأن قتلنا بعرْضه المنفرد.
(عُدراً عن الأخطاء النحوية و إلى حكاية أخرى)..
Commentaires
Enregistrer un commentaire